الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن
من أجل هذا، كان في الناس هذا الحرص الشديد على الحياة، وعلى الاستزادة منها، ولو كان ماؤها آسنا، وهواؤها سموما، وطعامها الشوك والحسك! والموت هو الشبح المخيف، الذي يطل على الناس بوجه كالح بغيض، يتهددهم في أنفسهم، وفيمن يحبون، من ولد، وأهل وصديق.. إنه أعدى عدو للإنسان.. إنه يبغت الناس بغتة، ويفجؤهم فجاءة على غير موعد.. فهم أبدا في وسواس منه، وفى خوف من وقعاته بهم، وبمن يحبون، ويؤثرون.إنه ليس شيء أبغض إلى الناس من الموت، وليس شيء أكثر طروقا ووسواسا لهم منه.. إنه أبدا مصدر إزعاج لكل سليم وسقيم، وكل شاب وشيخ.. إن لم يره دانيا منه في حال، رآه ناشبا أظفاره في أب، أو أم، أو زوج، أو ولد، أو صديق.ومن أجل هذا كره الناس لقاء الموت، وتعلقوا بالحياة، مهما تكن هذه الحياة، ومهما تكن ضراوتها وقسوتها، وما تسوق إلى الناس من مآس وآلام.. يقول أبو العلاء: ويقول أيضا: ولزوميات أبى العلاء، تدور كلها حول الموت، وماوراء الموت، ولا تكاد قصيدة أو مقطوعة من شعره في هذا الديوان تخلو من الحديث عن الموت، أو النفس، أو البعث والجزاء.. وذلك في صور شتى من الرأى المتقلب بين اليقين والشك، والإيمان والإلحاد، والإقرار والإنكار.إن الموت هو الينبوع الذي ارتوت منه فلسفة أبى العلاء فعمقت جذورها، وسمقت فروعها، وتعددت طعومها. فكانت فلسفة مؤمنة، ملحدة.متفائلة، متشائمة.. شأن الخائف المفزّع، تتغاير في عينيه صور الأشياء، وتغيم حقائقها.إن ظاهرة الموت من أكبر الظواهر وأعمها، مما شغل به العقل، والتفتت إليه الديانات السماوية والوضعية، منذ الخطوات الأولى للإنسان في هذه الحياة.يقول بعض الفلاسفة المعاصرين: إن الموت هو أصل الديانات كلها، ويجوز أنه لو لم يكن هناك موت لما كان للإله عندنا وجود.وذلك لأن الموت لفت الإنسان إلى قوة عليا، يستمد منها الحياة، ويدفع بها الموت.. وإذا لم يتحقق له ذلك في الحياة الدنيا، طمع في حياة أخرى بعد الموت، يصل بها ما انقطع بالموت.ويكاد التفكير الإنسانى كله- عدا جماعات قليلة متناثرة على رقعة الزمن الفسيح- يكاد يرى الموت خاتمة حياة، ومبدأ حياة جديدة أخرى.لقد رفض العقل منذ أول مرحلة من مراحل تفكيره- رفض أن يجعل الموت خاتمة نهائية لحياة الإنسان، وأبى أن يذهب بمن يموتون من الأهل والأحباب والأصدقاء إلى وادي الفناء والعدم.. فأقام لهم المقابر، وسعى إليهم في أوقات مختلفة، يناجيهم، ويبثهم ما بصدره من شوق وحنين، ويشكو إليهم ما لقى من بعدهم من آلام وأحزان.وحول المقابر، وعليها، أقيمت تماثيل الموتى، وقدّمت القرابين والصلوات والأدعية، حتى يجد الميت في ذلك ما يهنأ به في عالمه الجديد.إن شبح الحياة تدبّ في الأموات، مازال يطلّ على الأحياء من وراء القبور، فلم تنقطع الصلة بين الأحياء والأموات.. بمواراتهم في القبور، أبدا، بل كان الأحياء دائما يناجون الأموات، ويتحدثون إليهم حديث الحىّ إلى الحىّ، بل وكثيرا ما يتلقى الأحياء من الموتى- عن طريق التخيل والتوهم- الجواب الشافي لما يلقون إليهم من شئون وشجون.إن تلك الصلة النفسية بين الأحياء والأموات، قد خلقت في الناس عقيدة الحياة بعد الموت.. وذلك قبل أن تجيء الأديان السماوية، فتقرر هذه الحقيقة، وتلتقى مع ما وجده الإنسان بحدسه، واستشعره بوجدانه، وطرقه بخياله.لقد كان أهم ما يميز ديانة المصريين القدماء هو فكرة الخلود.. أعنى الحياة الخالدة بعد الموت.. فتلك العقيدة هي جرثومة التفكير الديني، الذي تولدت منه الديانة المصرية القديمة، وتشكلت منه طقوسها ومراسمها.فالمصريون القدماء، كانوا يعتقدون أنه وقد أمكن أن يحيا النيل بعد موته، فيفيض ثم يفيض، وأن يحيا النبات بعد موته، فيزدهى وينضر، فإنه- من باب أولى- أن يحيا الإنسان بعد أن يموت.واقرأ قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [80: المؤمنون].لم يرض الإنسان أن يكون نصيبه من الحياة تلك السنوات التي يعيشها في هذه الدنيا، وأبى أن يقبل الحكم الأبدىّ عليه بالفناء الأبدىّ، بعد الموت.. بل إنه جعل من الموت طريقا إلى الحياة الأبدية الخالدة، التي لا موت معها.يقول سقراط عند ما فتشت عن علة الحياة وجدت الموت.. وعند ما وجدت الموت ألفيت الحياة الدائمة.. ولهذا ينبغى أن نغتمّ بالحياة، ونفرح بالموت، لأننا نحيا لنموت، ونموت لنحيا.وفى كتاب الهند المقدس كاثا: يفنى الفاني كما تفنى الغلال، ثم يعود إلى الحياة في ولادة جديدة كما تعود الغلال.ويقول الفيلسوف الألمانى جوته:إن الاجتهاد المحتدم في نفسى، هو برهانى على الديمومة.. فإذا كنت قد عملت حياتى كلها ولم أسترح، فمن حقى على الطبيعة أن تعطينى وجودا آخر عند ما تنحلّ قواى، وتنوء بحمل نفسى.والديانات السماوية، تصور الموت على أنه إشارة البدء إلى رحلة طويلة، ينتقل فيها الإنسان من هذه الدنيا إلى عالم الخلود، حيث يلقى كل إنسان هناك جزاء ما عمل، من خير أو شرّ.ويؤدى الموت في الديانات السماوية، دورا عظيما في إقامة العقيدة الدينية، وفى تعميق جذورها في قلوب المؤمنين، وبعث الحماس للأعمال الصالحة التي تدعو إليها، وتقبّلها في رضا وغبطة، وإن كانت تحمل الإنسان على تقديم نفسه قربانا للّه بالجهاد في سبيله، طمعا في حياة أفضل! وليس من خلاف بين الديانات السماوية كلها في تقرير هذه الحقيقة وتوكيدها.. وتكاد تكون دعوة الرسل منحصرة في الإيمان بالبعث واليوم الآخر، بعد الإيمان باللّه.ومع أن الكتب السماوية، لم تتعرض لشرح عملية الموت شرحا فسيولوجيا ولم تدخل في جدل حول الجسد والروح وما بينهما من علاقة في الحياة، وما بعد الحياة- مع هذا، فإن أتباع هذه الكتب لم يقفوا عند هذا، بل كان في المتدينين- من فلاسفة وعلماء وفقهاء- من أجال تفكيره في هذه القضية، مستصحبا الدين، أو مستقلّا بنظره ورأيه.وفى التفكير الإسلامى كثير من الآراء والمقولات.. نكتفى هنا بأثارة منها.فمثلا يقول الراغب الأصفهانى: إن الموت المتعارف، الذي هو مفارقة الروح للبدن، هو أحد الأسباب الموصلة للإنسان إلى النعيم الأبدى.فهو وإن كان في الظاهر فناء واضمحلالا، فهو في الحقيقة ولادة ثانية.. إن الإنسان في دنياه جار مجرى الفرخ في البيضة، فكما أن من كمال الفرخ تفلّق البيضة عنه وخروجه منها، كذلك من شروط كمال الإنسان مفارقة هيكله.ولولا الموت لم يكمل الإنسان!.ثم يقول: فالموت إذن ضرورى في كمال الإنسان، ولكون الموت سببا للانتقال من حال أوضع إلى حال أشرف، سمّاه اللّه توفّيا وإمساكا عنده: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى} [42: الزمر].ثم يقول الراغب: فالموت هو باب من أبواب الجنة، منه يتوصّل إليها، ولو لم يكن الموت، لم تكن الجنة، ولذلك منّ اللّه به على الإنسان.. فقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [2: الملك].فقدّم الموت على الحياة، تنبيها إلى أنه يتوصل به إلى الحياة الحقيقة ومن هنا عدّ نعمة.وقال سبحانه أيضا: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} فجعل الموت إنعاما، لأنه لما كانت الحياة الأخروية نعمة لا وصول إليها إلّا بالموت، فالموت نعمة، لأن السبب الذي يتوصّل به إلى النعمة، نعمة.. وعلى هذا جاء قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ} [14- 16 المؤمنون]- فنبّه على أن هذه التغيرات متجهة إلى خلق أحسن.ويقول الفيلسوف المسلم محمد إقبال:إن كائنا- يعنى الإنسان- اقتضى تطوّره ملايين السنين، ليس من المحتمل إطلاقا، أن يلقى به كما لو كان من سقط المتاع.. وليس إلّا من حيث هو نفس تتزكى باستمرار- يمكن أن ينسب إلى معنى الكون.. {وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها} [7- 10: الشمس].. وكيف تكون تزكية النفس وتخليصها من الفساد؟ إنما يكون ذلك بالعمل: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [1- 2: الملك]- فالحياة تهيئ مجالا لعمل النفس، والموت هو أول ابتلاء لنشاطها المركب.وننتهى من هذا كله إلى حتمية البعث والحياة بعد الموت.وإنه قبل أن تجيء الديانات السماوية، وقبل أن تقول كلمتها في الحياة الآخرة، قالت الإنسانية كلمتها.. قالتها شعرا ونثرا.. وقالتها شعوذة وفلسفة! وأعدّت نفسها للحساب بين يدى قوة عليا، بيدها وحدها الجزاء الأوفى لكل عمل.ففى الديانات المصرية القديمة مثلا، كان يحمل الميت معه دفاعا مكتوبا، يلقيه بين يدى المحاسب العظيم.. وهذا، مثل من صور هذا الدفاع:سلام عليك.. أيها الإله العظيم.. ربّ الصدق والعدالة.. لقد وقفت أمامك يا ربّ وجيء بي لكى أشاهد ما لديك من جمال!! أحمل إليك الصدق.. إنى لم أظلم الناس.. لم أظلم الفقراء.. لم أفرض على رجل حرّ عملا أكثر مما فرض هو على نفسه! لم أهمل.. ولم أرتكب ما تبغضه الآلهة.. ولم أكن سببا في أن يسيء السيد معاملة عبده لم أمت إنسانا من الجوع.. ولم أبك أحدا.. ولم أقتل إنسانا ولم أخن أحدا لم أرتكب عملا شهوانيا داخل أسوار المعبد المقدس لم أكفر بالآلهة.. ولم أغشّ في الميزان لم أنتزع اللعب من أفواه الرّضّع.. ولم اصطد بالشباك طيور الآلهة أنا طاهر.. أنا طاهر.. أنا طاهر..!!.فالحياة بعد الموت، والحساب والجزاء، هي مما يطلبه الإنسان، ويعيش فيه، ويعمل له.. ولو لم يكن هناك دين يدعو إليها، أو شريعة تكشف عنها.فكيف إذا جاءت شرائع السماء كلها، مقررة لها، كاشفة عنها، ضاربة الأمثال لها، مقدمة الحجج والبراهين عليها؟وخير ما نختم به هذا البحث، ما قرّره الراغب الأصفهانى، في كتابه:تفصيل النشأتين حيث يقول: لم ينكر المعاد والنشأة الأخرى، إلا جماعة من الطبيعيين، أهملوا أفكارهم، وجهلوا أقدارهم، وشغلهم عن التفكير في مبدئهم ومنشئهم، شغفهم بما زيّن لهم من حبّ الشهوات وأما من كان سويّا، ولم يمش مكبّا على وجهه، وتأمل أجزاء العالم، علم أن أفضلها ذوات الأرواح، وأفضل ذوات الأرواح ذوات الإرادة والاختيار، وأفضل ذوى الإرادة والاختيار، الناظر في العواقب، وهو الإنسان- فيعلم أن النظر في العواقب من خاصية الإنسان، وأنه- سبحانه- لم يجعل هذه الخاصيّة له، إلّا لأمر جعله في العقبى، وإلا كان وجود هذه القوة فيه باطلا! فلو لم يكن للإنسان عاقبة ينتهى إليها غير هذه الحياة الخسيسة، المملوءة نصبا وهمّا وحزنا، ولا يكون بعدها حال مضبوطة- لكان أخسّ البهائم أحسن حالا من الإنسان!! فيقتضى هذا أن تكون هذه الحكم الإلهية، والبدائع الربانية، التي أظهرها اللّه في الإنسان عبثا، كما نبّه اللّه تعالى بقوله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ}.فإن إحكام بنية الإنسان، مع كثيرة بدائعها وعجائبها، ثم نقضها، وهدمها من غير معنى سوى ما تشاركه فيه البهائم من الأكل والشرب، مع ما يشوبه من التعب الذي أغنى عنه الحيوان سفه {تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا}.قوله تعالى: {فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}.هو تنزيه للّه سبحانه وتعالى، أن يكون خلق الخلق عبثا، وأنه سبحانه يميتهم، ثم لا يبعثهم.. إن هذا لا يليق بالملك العظيم، الحقّ، الذي لا إله إلا هو ربّ العرش الكريم.وفى وصف اللّه سبحانه وتعالى لذاته الكريمة العلية، بهذه الأوصاف الجليلة ما يشير إشارة مبينة إلى تقرير هذين الأمرين: الخلق، والبعث، وأنهما من شأن الملك الذي قام ملكه على الحقّ، والذي لا إله معه، يشاركه الخلق والأمر، فيعطل مشيئته، أو ينقض حكمته.ثم إن في وصفه ذاته سبحانه وتعالى بالكرم، إشارة أخرى، إلى أن الخلق والبعث نعمة من منعم كريم، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير.قوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ}.وبهذه الآية، والآية التي بعدها تختم السورة الكريمة، حيث يلتقى ختامها مع بدئها.. فقد بدئت بهذا الإعلان العام: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ}.ثم جاءت الآيات بعد ذلك تعرض صفات المؤمنين، وما أعدّ اللّه لهم في الآخرة من نعيم، حيث يورّثهم الجنّة، ويطلق أيديهم فيها، ينعمون بما يشاءون منها.. ثم عرضت الآيات بعد هذا صورا من قدرة اللّه، وفضله على الإنسان، الذي أخرجه من تراب، فكان هذا البشر السّوىّ.. وتمضى الآيات فتعرض، صورا للمعاندين المكذبين برسل اللّه، وما أخذهم اللّه به في الدنيا من نكال، وما أعد لهم في الآخرة من عذاب.ثم تخلص الآيات من هذا العرض إلى تقرير أمر البعث، وأنه أمر واقع لا شك فيه.. ثم تجيء خاتمتها داعية إلى الإيمان باللّه، والإقرار بوحدانيته، والتحذير من الشرك به، فإن من يشرك باللّه فهو من الكافرين.. وإن الكافرين هم الخاسرون.وفى قوله تعالى: {لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ} دعوة صريحة إلى تحرير العقل، وإطلاقه من قيد الأسر للأوهام، ومن الانقياد للآخرين، من غير أن يكون له نظر واقتناع، عن برهان قاطع، وحجة واضحة.فالإيمان باللّه سبحانه وتعالى: {قضية} أولى من قضايا العقل، يرتبط بها مسيره ومصيره، في الدنيا والآخرة.. وهذا من شأنه أن يدعو الإنسان أن يلقى هذه القضية في جدّ واهتمام بالغين، وأن يوجّه إليها كل مدركاته، وملكاته، وأن يفتح لها عقله وقلبه، حتى يمحصها تمحيصا، ويقيم لها الأدلة والبراهين.. فإن هو آمن بعد هذا، كان إيمانه على بصيرة وهدى، وكان لهذا الإيمان أثره فيه، وسلطانه عليه.. وإن لم يجد بين يديه البرهان المقنع، والدليل القاطع، والحجة الملزمة، فلا عليه أن يمسك عن الإيمان، حتى تتضح له معالم الطريق إليه، وحتّى يقع على الدليل الهادي، الذي يقوده إلى اللّه مذعنا، مستسلما!.. فذلك هو الإيمان الذي يطلبه الإسلام من المسلمين، ويفتح أبصارهم وبصائرهم له.وليس هذا هو شأن العقل مع قضية الإيمان باللّه وحدها، بل إن ذلك هو الذي ينبغى أن يكون من شأنه مع كل قضيّة من قضايا الحياة، صغيرها وكبيرها.إذ كان العقل هو الحاسّة التي يذوق بها الإنسان طعوم الحياة، ويميز بها الخبيث من الطيب، والشرّ من الخير، والنافع من الضار.. تماما كما يذوق باللسان طعوم المأكولات والمشروبات، حتى لا يدخل على الجسد طعاما فاسدا، فيفسد طبيعته.قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}.بهذه الآية الكريمة، تختم السورة.. وبهذه الرحمة الواسعة من ربّ كريم رحيم، يغاث الناس، ويتداوون من جراحات الآثام والذنوب، التي شوهت معالم فطرتهم، وذهبت بالكثير من جمال خلقهم السّوىّ، الذي خلقهم اللّه عليه.لقد ركب كثير من الناس طرق الغواية والضلال، وكادت تضيع إنسانيتهم في هذا التّيه، ولكن رحمة اللّه تداركتهم، فلقيتهم هناك في هذا الضّياع، وأعادتهم إلى مجتمع الإنسانية الكريم.وهكذا ينتهى أمر الناس، برحمة عامة شاملة، تنال البرّ والفاجر، وتكسو المطيع والعاصي.ولترغم أنوف أولئك الذين يتألّون على اللّه، ويؤيّسون الناس من رحمة ربّ الناس، ويحتجزونها لأنفسهم، حتى لكأنها لا تتسع إلّا لهم، وأنه لو شاركهم فيها غيرهم لضاقت بهم، وقلّ حظهم منها.. فهذا من سوء الظنّ باللّه، ومن ضلال في الفهم لما لذاته من كمال مطلق.. {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (32: الزخرف).ومن أسرار هذا الختام للسورة بهذه الآية الكريمة، أنها جاءت تحمل الرحمة والمغفرة- الرحمة الواسعة، والمغفرة الشاملة- وبين يديها هذه الأحكام، وتلك الحدود، التي جاءت بها سورة النور التي تلى هذه الآية مباشرة، وكأنها تبشر بالرحمة والمغفرة، أولئك الذين تغلبهم أنفسهم، وتستعلى عليهم أهواؤهم، فيخرجون عن حدود اللّه، ويواقعون الإثم والمنكر!! فسبحانك سبحانك من رب كريم، غفور، رحيم.. تعنو لجلاله الوجوه، وتستخزى في مواجهة كرمه، ومغفرته ورحمته، النفوس، ويستحى من عصيانه، والتمرد على طاعته، أهل الحياء! وألا شاهت وجوه الذين يلقون رحمة الرحمن الرحيم بالتمرد والكفران.وألا خسئ وخسر، أولئك الذين يغريهم لطف اللطيف، وإحسان المحسن بالتطاول عليه، والعدوان على حرماته..!
|